مجرد دخان


image

جلس في الضوء الخافت يتأمل الدخان الأبيض المائل للزرقة يتكاثف داخل البرطمان الزجاجي، كان الفراغ في قلب البرطمان يختفي تدريجيا ليحل محله اللون الأبيض الذي تزداد كثافته الى درجة يشعر فيها ان البرطمان يوشك على الانفجار، فيرفع الغطاء بحركة سريعة ليترك الدخان ينطلق حرا في فضاء الغرفة التي أحكم غلقها، ووضع الخرق المبللة في قلب فراغات بابها وشباكها القديم الصديء الذي لم يتمكن قط من فتحه.

من قبل لم يكن ليترك “النعمة” تتبدد في الهواء، لكنه اليوم شعر برغبة عارمة أن يحول الغرفة إلى برطمان كبير، يجلسا في قلبه. وزع البرطمانات في الغرفة وجلس على طرف المرتبة التي بسطها في ركن الغرفة في ذلك الطابق المهمل من بيت أسرته. في انتظار اللحظة التي يحقق فيها هدفه ويلف الدخان الأبيض كل ما وكل من بداخل الغرفة، كان يسلي نفسه بالاستماع إلى صوت أنفاسها التي منحتها سنوات التدخين ثقلا ورتما محببين..

كانت قد قررت النوم قليلا بعد المجهود الذي بذلاه، وبعد المغامرة الطويلة التي مرا بها من أجل أن يتسللا إلى الطابق المهمل دون أن يشعر بهما قاطنو الأدوار الثلاثة السفلى من افراد اسرته، كانت مغامرة غير مأمونة لكن شبقها واشتياقها جعلا كل شيء ممكن. قررت ان تتمدد قليلا وطلبت منه “ايقظني متى لم يعد بالغرفة معنا سوى الدخان”.

تأملها وتذكر مناقشتهما في طريق العودة، كانت تحاول ان تقنعه بما تقول، ولم تعلم أنه كان يعرف كل شيء، أنه يمتلك تفسير العالم وحل كل الألغاز، وأنه هو من سيجعل هذا العالم أفضل، هي لم تعلم لكن هو كان يعرف، وكان يعرف أيضا ان أولئك المتفذلكين مدعي الثقافة، وهي منهم، لن يفهموه، وسيكتفون بترديد أكلاشيهاتهم المحفوظة، طالبين منه أن يقرأ كتبهم الصفراء المقدسة ليفهم.. ابتسم في سخرية، “لست احتاج لنصوصكم المحفوظة يا حمقى”، فانا أفهم ما حدث وما يحدث وما سيحدث، حروفكم العتيقة قد ذبلت على سطورها، وذبلتم انتم تحت ثقلها بلا جدوى.

أنت حمقاء أخرى مثلهم، اضطر ان اتحملك، هذا هو الطريق الوحيد لانتصر، اتحمل كلماتك واتظاهر بالهزيمة أمامها، لانتصر وتنهزمي أنت تحت ثقل جسدي في آخر الليل على تلك المرتبة القديمة، في مملكتي، في غرفتي بالطابق الذي لا يدخله إلاي، تلك المرتبة التي لم أعد اطيق النوم عليها ترضين أنت بها لتكون ساحة انتصاري وتتويجي.

حاول مرة أخرى أن يتبين ملامح الوجه النائم في قلب الدخان الذي بدأ يعزله عن الموجودات، خيل له أنه يلمح ابتسامة هادئة على الشفتين، ابتسامة ثقة وانتصار، “اللعنة .. لن تسلبي انتصاري بابتسامة”، كان الدخان الابيض قد ملأ الغرفة بأكملها، مد يده ليوقظها كما طلبت، إلا ان يده توقفت في اللحظة الأخيرة، وتراجع يجلس بهدوء، بدأ يشعر بالاختناق وسمع انفاسها تتلاحق بحثا عن ما تبقى من اكسجين في قلب الغرفة، إلا انه أحس بالارتياح واحس أنه يرتفع إلى حيث لم يصل من قبل، وبالتأكيد حيث لم يصل أي انسان آخر، وقبل ان يقطع كل صلة له بالغرفة سمع شهقات الاختناق الأخيرة، قد حقق انتصاره الأعظم، ووسط نشوة الانتصار أحس ببعض الأسى، لأن العالم لم يعد به من يعرف كل شيء مثله، لكن الأسى اختفى مثلما اختفت النشوة واختفى كل شيء في قلب عتمة الغرفة التي امتلأت بالدخان.

أضف تعليق