سراب


اعتاد منذ سني الشباب على الخيالات التي تتجسد لعينيه في طرق السفر، كان لا يستطيع أن يجزم بشكل قاطع ان كانت محض خيالات أم واقع، أو أنها مزيج من هذا وذاك.

مازال يذكر ما رآه في مراهقته في الطريق الصحراوي في ما ورء الجبانات، كان يركب حافلة عملاقة من حافلات مصر العليا للنقل، وجاء مجلسه في الكرسي الأخير، الذي كان يرتفع ارتفاعا أضافيا فوق ارتفاع باقي الكراسي. ولابد أنه قد أخذته غفوة هربا من طول الطريق وحراراة الجو عصر ذلك النهار الخريفي، ولابد أنه كان يفكر في الدراسة الجامعية التي بدأها منذ أيام قليلة، قبل أن تفتح المدينة الجامعية أبوابها لاستضافة الطلاب الجدد، ولعله أشفق علي نفسه من سفره اليومي، أفاق من غفوته على انعكاس شديد لأشعة الشمس يضرب عينيه من جهة الجبانات، لوهلة لم يدرك هل استيقظ أم مازال طافيا فوق الأفكار المتداعية غير المرتبة لغفوته. لكن رجرجة الحافلة على الطريق الممهد برداءة وعدم اعتناء جذبته بقسوة للواقع، واخذ يحدق في الانعكاس محاولا أن يفهم ما هو.

كان قد قرأ عن أشعة الشمس العابثة بأعين المسافرين في طرق الصيف، وكيف يحول اختلاف دراجات الحرارة الهواء إلى طبقات متباينة تتفنن كل منها في كسر أشعة الشمس بزاوية مختلفة، تغير أماكن المرئيات حتى يظهر بعض من الطريق كأنه مغمور بمياه تعكس زرقة السماء وبياض السحب. لكن ما كان يراه كان حقيقيا ومختلفا عن السراب الذي رآه من قبل عدة مرات في الطرق الريفية حول مدينته الصغيرة في أيام الأجازات الصيفية حين كان يرافق أبيه في عمله اليومي. كان ما يراه يختلف بكل تأكيد عن السراب، لكنه في الوقت نفسه لم يسمع أو يقرأ عن بحيرة عظيمة ترقد وراء الجبانات في قلب الصحراء.

سرعان ما أراحته الحافلة من تساؤلاته بقسوة، وفرت به من مشهد الجبانات الراقدة على الطريق، لكن بقى اللغز يداعب عقله وخياله كلما مر بطريق السفر، وما اكثر سفره ما بين عالميه.كلما مر بالطريق لزيارة الأهل، تذكر البحيرة الملغزة في ما وراء الجبانات، وتذكر محاولاته للبحث عن أي أثر لها سواء في مرات سفره التالية، أو عبر صور الأقمار الصناعية عندما تعرف على برامج الحاسوب والانترنت ثم تطبيقات الهاتف الذكي.كل المحاولات طيلة عشرين عاما ونيف كانت هباء، لكنه أيضا ظل رافضا طيلة العشرين عاما ونيف أن يصدق أنه كان سرابا.

تذكر هذه القصة في رحلته الليلية، كان الحزن ينمو كفطر معتم على ما تبقى من نور قليل في روحه، وإن كان لم يقتنع بعد أن بحيرة الجبانات محض سراب، فقد خبر السراب والوهم في حياته مذ حينها بكل الأشكال، في الحب والثورة والصداقة، وحتى في نظرته لذاته وطموحه لمستقبله، وبدا له نوع من السخرية أن يستدعي مخه قصة السراب الذي يأبى أن يصدقه بعد أن وجد نفسه مجبرا على قبول السراب والوهم في كل تفاصيل حياته.

ربما كان النجم الوامض الذى لاحظه في ظلمة الطريق هو السبب، فقد ظل يراقبه طيلة الطريق في الظلام بجوار قمر لمع في طور التربيع، ولا يستطيع أن يحدد ان كان نجما أم إشارة أحد ابراج الاتصالات، كانت وتيرة الوميض أسرع من أن يكون نجما وامضا يرى بالعين المجردة، لكن الضوء ظل ملازما للقمر لمسافة من الطريق، ينفي طولها كونه إشارة لبرج اتصالات. ظلت الحيرة والتساؤلات تلاعبه حتى اختفى القمر والضوء مع انعطافات الطريق يمينا ويسارا وصعودا وهبوطا.

تنهد وهمس لنفسه في سخرية: “لغز جديد، ووهم وسراب جديد .. وكأن الحياة ينقصها مزيد من الألغاز والأوهام والسراب”.

١٣ سبتمبر ٢٠٢١

أضف تعليق